skip to Main Content

لويس أرمسترونج أَبرزُ عَازِفِي الجَّاز

أَشعرُ حِيْنَ أتحدّثُ عن «لويس أرمسترونج»، بأنّي شخصٌ متحيّزٌ لهُ ولِموسِيقاه، وفي الحقيقة أدينُ لألحانهِ العذبة أنّها علّمتني معنى أنْ تتذوقَ اللّحنَ، وتستمتعَ بنشوةِ انسيابها في أذنك، وأعتقدُ أنّي هنا أتكلم كعاشقٍ أكثرَ مِنْ كَونِي صَاحِبَ رأي. ولعلّ تعددَ المدارسَ في الموسيقى، تجعلُ المتلقّي لَها يميلُ إلى همساتِ تشعلُ شجونَهُ، وتجعله في أقصى درجات الحماس والانفعال، وقد يوافقني في ذلك كثيرٌ ممن استمعوا إلى موسيقاه، وملؤوا روحَهم بالهمّةِ والحماسِ. وأميل إلى الاعتقاد بأن ما تركه هذا الفنّان في نفسي جَعلني أَكثر رهافةَ في تلقي نغماته الخارجة من رحمِ المعاناة، ليولدَ الأملُ من قمّة الألمِ.

امتلأت حياة «أرمسترونج» منذ بدايتها بالعنصريّة، وقتل الذات والتَهميش، وهي بدايات مؤلمةٌ تكفي لتصنع حاقدًا، يرغب بالثأر من ظالميه في أفضل الأحوال، لكنَّ الأمر المستغرب، أنْ جعلَتْ منْهُ شخصًا أكثر رقّة ورهافة وسموًّا في المشاعر والأحاسيس. وخاصة عندما تعكس نفسه الحيية ذاتها على آلته لتبثَّ كلَّ تلك الألحانِ العذبة والمدهشة. والحديث عنه كأحد عازفي «الجاز» لن يضيف جديدًا، لكنَّ معجزة كونه قادرًا على إخراج كل هذا المكنون العذبِ والجميلِ وَسَطَ كل الظروف الصّعبة التي تحيط به. ولعلّنا نجد في كلماته قُبَيل وفاته تلك العذوبة والرقّة والسكينة التي يندرُ أن يحظى إنسانٌ بها. يقول «أظنُّ أنني عِشْتُ حياةً جميلةً، لم أتمنّ شيئا لا أستطيعُ بلوغَهُ، دنوت من كل شيء أردته؛ لأنني عَمْلْتُ من أجله».

يعد أرمسترونج ملك موسيقى الجاز، وأشهر عازفي «الترومبيت» في التّاريخ، وبالرغم من أنّه لم يكن يومًا داعيةً سياسيًا، إلا أنَّ موسيقاه غيّرت النظرة إلى العنصريّة نحو السّود في الولايات المتحدة بشكل تدريجي، فأثرى بموسيقاه كفاح أصحاب البشرة الملوّنة في أمريكا من أجل المبدأ، ومن أجل الحصول على الحريّة والحقوق الأساسية كمواطنينَ، وكان من غير الممكن بَعْدَهُ أن تبقى تلك النظرة العنصريّة بسببِ لونِ البشرةِ. ولد أرمسترونج في مدينة أوليانز إحدى مدن أمريكا عام 1901 من أسرةٍ فقيرةٍ، ونشأ بين أحضان والدته وجدّته وأقربائه، واضطرَ للعمل عندما كان في المدرسة الابتدائيّة، وتمكّن من شراء آلته الموسيقيّة الأولى في حياته. تأثّرت شخصيّته بتخلّي والده عنه، عندما كانَ طفلًا، في ظلّ مجتمعِ يحفلُ بالعنصريّة، وهو الذي ذاقَ أحدَ أشدَّ فصولها؛ عندما كان في ميتم للأطفال السّود، فعرف الاضطهاد منذ نعومة أظفاره؛ لسبب وحيد، وهو لونُ بشرته.

بدأ العزف على آلة الترومبيت، محاولًا ابتكارَ ألحانه الخاصة في إطار من التجديد المبدع، وفي عام 1917 ، قام بالعزف لأوّلِ مرّة إلى جانب معلّمه (أوليفر) في فرقته الموسيقيّة. لحّن وأدّى المئاتِ من المقطوعاتِ الموسيقيّةِ، والأغنياتِ، والأعمالِ الدراميّةِ في المسرح والسينما، والتلفزيون، وتمكّنَ من إزاحةِ فريقِ «الخنافسِ» الشهيرِ عن عرشِ «البوب»، ليصبح بعد ذلك أشهرَ مغنّ عالمي يتربّع على عرش المبيعات. لم يمنعهُ  فقرهُ  في  بداية  حياته من أن  يتبنّى طِفلًا مُعاقًا، وظلّ يرعاه ويهتمّ به حتى آخر حياته، وكان من المتحمّسين لحركة الحقوق المدنيّة، وقدّم مساعدات ماليّة كبيرة إلى زعيمها «مارتن لوثر» .

ولد فقيرًا، ولم تغيّر الشهرةُ من طبعه المتسامح في حياته كلّها، حتّى عندما كان في قمّةِ شُهْرَتِهِ كانَ يخرجُ إلى الأحياءِ الفقيرةِ ويعزفُ بآلتهِ للأطفالِ الصّغارِ فيها. ومات كما ولد لا يحملُ مَعَهُ، إلا حبَّ الذين عمل معهم ولأجلهم، وتَرَك لهم أرثه الموسيقي الذي يعيد قصّة ذلك الإنسان «لويس أرمسترونج».

رامي مكي

Back To Top