skip to Main Content

مسلسل “نهاية رجل شجاع”

استخدم الكاتب حنّا مينه في روايته “نهاية رجل شجاع” شخصية “مفيد الوحش” لتشخيص تناقضات النفس البشرية المليئة بالصراع بين مكنونات الخير والشر، وعمل الكاتب على تجسيد شخصية “مفيد” بعمقٍ واحترافٍ ليلقي الضوء على الصراع المتمثل بالطبيعة البشرية، فمثلًا عمدت شخصية “مفيد” البسيطة وتفكيره القروي الساذج إلى زجّه في صراعاتٍ غير مدروسة، كان لها عواقب غيرُ جيدة على سلوكياته.

قام الكاتب بدايةً برسم الصّورة الاولية لمفيد على أنه إنسانٌ سلبيّ تجاه مجتمعه، فهو ابن بيئته القاسية التي أجبرته أن ينشأ في كنف والدٍ لا يعرف الرحمة ولا الإنسانية، كان مفيد يُضرب بطريقةٍ وحشيّة ومُهينة، وهذا كان دافعًا أساسيّاً لتمرّده على واقعه الصعب وأحكام القيم والأعراف انتقامًا للأنا. ظهرت صورة الأم طيّبة حنونة، لكنّها في الوقت نفسه عاجزة عن تقديم أية مساعدة لابنها، فهي مغلوبة وغير قادرة على ثني الأب عن تصرفاته، وأقصى ما كانت تفعله هو إبعاده عن البيت ونصحه وإرشاده. أما بالنسبة لصورة المجتمع الاوّلي لمفيد “القرية”، فقد جسدّها الكاتب من خلال شخصيتي “المختار والمعلّم”، فالمختار كان رجلًا قاسيًا، وقد قام بعقاب مفيد أمام أبناء القرية بطريقٍة قاسية والإساءة له واعتبار ما فعله جُرمًا مقصوداً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعلّم، والذي كان سلبيًا جدًا في التعامل معه وقد شكّل لمفيد كابوسًا، وأصبحت المدرسة في حياته مكانً أشبه بالسجنِ لما كان يتعرض له من إهانات وطردٍ وعقاب. لذا كان المجتمع الأول (القرية) في حياة مفيد عاملَ هدمٍ ودفعه إلى التّشرّد، حيث قام بالهرب من القرية التي كانت مصدراً الألم والقسوة.

انتقل مفيد بعد ذلك للعيش في المدينة ظنًّا منه أنّها ملاذه الذي فقده مبكّرًا، لكنها كانت أقسى من حياته في القرية، وظهر في حياته أحد أقارب أمه يدعى “ابراهيم الشنكل” الذي بدأ في توجيهه إلى حياةٍ جديدةٍ تعتمدُ على القدرات العقليّة، فالجسد في المدينة وحده لا يكفي. شكلّت المرأة نقطة تحولٍ مفصليةٍ في حياة مفيد، بعد أن تعرّف على عشيقته “لبيبة”، فقد استطاعت أن توقظ في داخلة الحسّ الإنساني المتمثّل بالحبّ، إذ بدأ يميل إلى التفكير بالاستقرار والارتباط والبحث عن عملٍ ثابت. لقد أسهم السّجنُ في تشكيل الذّات الفاعلة وعاملًا مهمّاً من عوامل التربية عند مفيد فبعد أن تم سجنه، تعرف إلى الأستاذ ماهر الذي علمه القراءة التي كانت بالنسبة لمفيد مفتاحًا حاول ألا يضيّعه كما فعل في المدرسة. لقد زرع الأستاذ ماهر بذور الخير ونمّاها بداخل مفيد، كما قام بتعليمه أيضًا بعض المهارات الفكرية الهامة. لم يستطع مفيد المحافظة على هذه المبادئ طويلًا، فما لبث أن عاد إلى حياة التشرد، والسرقة والذات السلبية التي انغمس فيها، وأصبح من لصوص الميناء، وصنع لنفسه الكثير من العداوات. حيث عاد مفيد إلى السجن من جديد، بعد أن عاث في الميناء فسادًا، وهناك في السجن أصيب بمرض السكّري الّذي أدّى الى قطع رجليه؛ وفَقَدَ قُدرته على المشي، وهنا أحكم اليأس قبضته على مفيد، إلى أن ظهر إبراهيم الشنكل مرّة أخرى، واستطاع أن يخرجه ممّا هو فيه، ولكن أعداؤه لم يتركوه بحاله فعملوا على تضييق الخناق عليه، إلى أن قام بقتل أحد الضباط “الرقيب زريق” وأنهى حياته منتحراً.

أعطانا أيمن زيدان درساً في فنّ التمثيل، فقد أبدع في تقديم شخصيةٍ معقدةٍ تجمع بذور الخير والشر في آن واحدٍ، هذه هي الطبيعة البشرية بتناقضاتها، ولكن في حالة مفيد تفوقت (الذات السلبية) على الذات الإيجابية، بسبب الأفكار المكتسبة الموروثة منذ الطفولة، والتي شكلّت سلوكيات رافقت مفيد طيلة حياته. ولعل أجمل ما ترك فينا هذا العمل الدرامي هو تلك الأسئلة التي دارت في أذهاننا عن “التربية الذكورية” وأثرها السّلبي على نشأة الأطفال وعن موضوع الخير والشر في مكنوناتنا كبشر وذواتنا بالتحديد. لقد ركّز مخرج العمل  “نجدت أنزور” في ملحمته “نهاية رجل شجاع” على البعد الاجتماعي والنفسي لشخصية “مفيد”، من خلال رحلةٍ حملت في طياتها الكثير من الحقائق الصريحة والمبطّنة عن أنظمةٍ اجتماعية قاسية على أفرادها. كانت النهاية تماماً كما عاشها بطل العمل مؤلمة ومليئة بالحزن بين أمواج متلاطمة عصفت بحياة أشخاص كانوا بمثابة ضحية في مجتمعات متخلّفة، ومازال هذا الحزن الذي أحسّسنا به يرافقنا لهذه اللحظة كلما شاهدنا المشهد الأخير من موت مفيد والتي اعتبرها الجميع وليس المخرج فقط “نهاية رجل شجاع”.

الشجاعة هي اللغز الذي حاول المخرج تمريره لمشاهديه من خلال سيناريو وحبكة دراميةٍ كانت ومازالت أجمل من الخيال، ومن جانبٍ آخر حاول المخرج أن يصوّر أهمية العمل الجماعي والانتماء الذي كان مفيد يرفضه بشدّةٍ، حيث أنه آمن بالعمل الفردي وأصر على تطبيقه في مراحل حياته الغامرة.

Back To Top